الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (4): {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)}فيه عشر مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ} الصدقات جمع، الواحدة صدقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر، ولا يقال بالفتح.وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخطاب في هذه الآية للأزواج، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم.وقيل: الخطاب للأولياء، قاله أبو صالح. وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبي: أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير، فنزل: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}.وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي ان المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. والأول أظهر، فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد، لأنه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} إلى قوله: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الأخر.الثانية: هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يحجب فيه صداق، وليس بشيء، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} فعم. وقال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وأجمع العلماء أيضا أنه لاحد لكثيرة، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً}. وقرأ الجمهور {صدقاتهن} بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة {صدقاتهن} بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد {صدقتهن}.الثالثة: قوله تعالى: {نِحْلَةً} النحلة والنحلة، بكسر النون وضمها لغتان. واصلها من العطاء، نحلت فلانا شيئا أعطيته. فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة.وقيل: {نِحْلَةً} أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع.وقال قتادة: معنى: {نِحْلَةً} فريضة واجبة. ابن جريج وابن زيد: فريضة مسماة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة.وقال الزجاج: {نِحْلَةً} تدينا. والنحلة الديانة والملة. يقال: هذا نحلته أي دينه. وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها:تقول: لا يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء. و{نِحْلَةً} منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة.وقيل: هي نصب على التفسير.وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال.الرابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} مخاطبة للأزواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة، وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها.وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الأول أصح، لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر، والضمير في: {مِنْهُ} عائد على الصداق. وكذلك قال عكرمة وغيره. وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}.الخامسة: واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه. إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا. قال ابن العربي: وهذا باطل، لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها، إذ ليس المراد صورة الأكل، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال، وهذا بين.السادسة: فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم، لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه. كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبايعها، فصحح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العقد وأبطل الشرط. كذلك هاهنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة. قال ابن عبد الحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها، لأنه شرط على نفسه شرطا واخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم».السابعة: وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا، لأنه ليس بمال، إذ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله. وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي.وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق، على حديث صفية-رواه الأئمة- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعتقها وجعل عتقها صداقها. وروي عن أنس أنه فعله، وهو راوي حديث صفية. وأجاب الأولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق، وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق. فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا، والله أعلم.الثامنة: قوله تعالى: {نَفْساً} قيل: هو منصوب على البيان. ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا. وأنشد: وفي التنزيل: {خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ} فعلى هذا يجوز شحما تفقأت. ووجها حسنت.وقال أصحاب سيبويه: إن نَفْساً منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا، وليست منصوبة على التمييز، وإذا كان هذا فلا حجة فيه.وقال الزجاج الرواية: واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما.التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُوهُ} ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً}. وليس المراد نفس الأكل، إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل. ونظيره قوله تعالى: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} يعلم أن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.العاشرة: قوله تعالى: {هَنِيئاً مَرِيئاً} منصوب على الحال من الهاء في: {فَكُلُوهُ} وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس. هنأه الطعام والشراب يهنئه، وما كان هنيئا، ولقد هنؤ، والمصدر الهنء. وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنئ. وهني اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف. وهني يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن. وهنأني الطعام ومرأني على الاتباع، فإذا لم يذكر هنأني قلت: أمرأني الطعام بالألف، أي انهضم. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث: «ارجعن مأزورات غير مأجورات». فقلبوا الواو من: «موزورات» ألفا اتباعا للفظ مأجورات.وقال أبو العباس عن ابن الاعرابي: يقال هنئ وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني، حكاه الهروي.وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو قليل.وقيل: {هَنِيئاً} لا إثم فيه، و{مَرِيئاً} لا داء فيه. قال كثير: ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهني المري.وقيل: الهني الطيب المساغ الذي لا ينغصه شي، والمري المحمود العاقبة، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة. يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن هذه الآية: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} فقال: «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة» وروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها، ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء، فيجمع الله عز وجل له الهني والمري والماء المبارك. والله أعلم. .تفسير الآية رقم (5): {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)}فيه عشر مسائل:الأولى: لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه. فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام. وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة، فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة. واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة. وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فإن فعل حولت إلى رجل من قومه. واختلفوا في الوصية إلى العبد، فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب. وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبد الحكم. وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده. وقد مضى القول في هذا في البقرة مستوفى.الثانية: قوله تعالى: {السُّفَهاءَ} قد مضى في البقرة معنى السفه لغة. واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شي.وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات، لأنه الأكثر في جمع فعيلة. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} يعني الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع إليه مضاربة.وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر. وهذا جامع.وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله. فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به. والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره، فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا. والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج، والبكر في حق نفسها. فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما. وأما الكبير فلانه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ما له في غير وجه، فأشبه الصبي، وفيه خلاف يأتي. ولا فرق بين أن يتلف ما له في المعاصي أو في القرب والمباحات. واختلف أصحابنا إذا أتلف ما له في القرب، فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر عليه. والعبد لا خلاف فيه. والمديان ينزع ما بيده لغرمائه، لإجماع الصحابة، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة، ذكره مالك في الموطأ. والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها، لأنها لا تحسن النظر لنفسها. حتى إذ تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع. وأما ذات الزوج فلان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها».قلت: وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره، فلا يدفع إليه المال، لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها. وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره. والله أعلم. واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك إلى ملك، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم، وبها قوام أمركم. وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: أن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم. فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته. وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء.الثالثة: ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} وقال: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً}. فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ، لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه، قاله الخطابي.الرابعة: واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الامام على يده. وهو قول الشافعي وأبي يوسف.وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الامام.وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الامام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما أحتاج السلطان أن يحجر على أحد. وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن حجر عليه قبل ذلك.الخامسة: واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه.وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد، لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا. وقيل عنه: إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا. وهذا كله ضعيف في النظر والأثر. وقد روى الدارقطني: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم- هو أبو يوسف القاضي- أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت بيع كذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى على عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه. فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر واراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه. قال يعقوب بن إبراهيم: وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر. فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز الحجر على الكبير، فإن عبد الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه. وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة. وهذا يرد على أبي حنيفة قوله. وستأتي حجته إن شاء الله تعالى.السادسة: قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً} أي لمعاشكم وصلاح دينكم.وفي {الَّتِي} ثلاث لغات: التي والت بكسر التاء والت بإسكانها.وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون. وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى. والقيام والقوام: ما يقيمك بمعنى. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي يصلحه. ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء. وقراءة أهل المدينة {قيما} بغير ألف. قال الكسائي والفراء قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر. أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما.وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم. يذهب إلى أنها جمع.وقال البصريون: قيما جمع قيمة، كديمة وديم، أي جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام واصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه. وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك. وقرأ الحسن والنخعي {اللاتي} جعل على جمع التي، وقراءة العامة {الَّتِي} على لفظ الجماعة. قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس.السابعة: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها. وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر. فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها.وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟» فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة!. قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة في ذلك.الثامنة: قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها. وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.التاسعة: ولا نفقة لولد الولد على الجد، هذا قول مالك. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض. ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر قوله عليه السلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».وفي حديث أبي هريرة: «يقول الابن أطعمني إلى من تدعني؟» يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف. ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك، لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} الآية. فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك.وفي قوله: «تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني» يرد على من قال: لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري. وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ}. قالوا: فوجب أن ينظر إلى أن يوسر. وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} الآية. قالوا: فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح. ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها. والحديث نص في موضع الخلاف.وقيل: الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره، على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال. فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله، فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الامام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالاخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به. ولا ترجع عليه ولا على أحد. وقد مضى في البقرة عند قوله: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}.العاشرة: قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} أراد تليين الخطاب والوعد الجميل. واختلف في القول المعروف، فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك.
|